السبت، 23 فبراير 2013

سوريا سنة 1936 , المعاهدة الفرنسية –السورية , احتلال ناعم .



يمكن اعتباره سنة 1936  سنة دسمة بالأحداث و منعطف هام في تاريخ سوريا الحديث . فبعد الإضراب الستيني الذي دعت اليه الكتلة الوطنية ,كان له اثر على فرنسا التي ارسلت عرضا الى قادة الكتلة تدعوهم للذهاب الى باريس لمناقشة قضيتهم , فألقت الكتلة شعار (خذ و طالب) كشعار لمفاوضاتهم مع فرنسا  يقبلون فيها استقلالا يشبه استقلال العراق عن بريطانيا في ذلك الوقت تألف في 14/3/1936 وفد من9 اشخاص (5 مسلمين و 4 مسيحيين)  برئاسة هاشم الاتاسي رئيس الكتلة الوطنية ,وكان من اعضاء الوفد البروتستانتي المخضرم (فارس الخوري) و ايضا سعدالله الجابري و جميل مردم و ادمون الحمصي و مصطفى الشهابي و نعيم الانطاكي واحمد اللحام و ادمون الرّباط (1) . نلاحظ هنا ان فرنسا قبلت بالتفاوض مع الكتلة الوطنية فقط و التي كانت مع صراع او يمكن تسميتها (معارضة) لحكومة تاج الدين الحسني , وكان هذا الصراع الدائر بين حكومة تاج الدين الحسني و حزب الكتلة الوطنية كان قائما على الحزبية والسيادة و ليس بسبب العداء للفرنسيين , فجعلت فرنسا من الكتلة الوطنية متحدثا رسميا بإسم الشعب السوري عن طريق دعوتها الى باريس لمناقشة مستقبل سوريا , وبرغم علمانية الوفد الصارخة التي جعلت تقريبا نصف الوفد غير مسلما , الا ان الامر المثير للاهتمام هو تغييب شخصيات  ذات رأي ( و ان كان بعضها مواليا لفرنسا) في الحوار حول مستقبل سوريا (مثل تاج الدين الحسني و زكي و محب الدين الخطيب و حسن الحكيم وغيرهم) فربطت فرنسا مستقبل البلد كله بالكتلة الوطنية التي كانت كما سنرى بعد قليل على المسلمين أشد بطشا من على غير المسلمين . 

الوفد السوري المسافر لفرنسا من اليمين لليسار : فارس الخوري - هاشم الأتاسي - جميل مردم

بينما الوفد في فرنسا وصلت إليه انباء ان وزارة الخارجية الفرنسية تلقت مئات البرقيات من مسيحيي العراق و سوريا و لبنان ومصر تعلن قلقها قائلة (اليوم منعوا المسيحيين من شرب الخمور , غدا يمنعونهم من دق اجراس الكنائس نسترحم التشدد في حماية الاقليات في مفاوضاتكم مع الجانب السوري ) كان سبب هذه البرقية ظهور حركة دينية في حلب سمت نفسها (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)  قامت بإغلاق الخمارات و الكباريهات و تحطيم بعض منها ,و لما وصل الخبر الى سعدالله الجابري استشاط غضبا و غيظا و كتب رسالة عاجلة الى (جميل ابراهيم) عضو الكتلة في حلب قائلا في رسالته (بصفتي رئيس الكتلة الوطنية في حلب اكلفك بقطع لسان كل من يقول بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر ان هذا الامر يضر بالمفاوضات و يجب ان تعلموا اننا لم نحصل على استقلالنا حتى تقوموا بهذه الافاعيل و حتى لو حصلنا عليه فلن نسمح بأمر من هذا القبيل) فأخذ جميل ابراهيم الرسالة ومعه وفد من انصار الكتلة و صار يطارد اصحاب الحركة و يكافحهم  , فاستحسن الجابري هذه الاعمال و ارسل وفدا يحمل عصن زيتون الى المطران الماروني مبارك الموجود في باريس لاسترضائه , وكان هذا المطران يطالب دوما بحماية الاقليات و بفصل لبنان عن سوريا (2). كانت غيرة النائب في الكتلة للأسف على المسيحيين اكبر من غيرته على المسلمين وشدته على هؤلاء الاخيرين لا تتساوى مع غيرهم , فبعد عودة الوفد الى سوريا , توجه (توفيق شامية) احد ممثلي الكتلة الوطنية الى الجزيرة لاستلام منصبه كمحافظ للمنطقة فقام الاشوريون بمنعه من دخول مبنى المحافظة و من ثم خطفوه , فما كان من سعد الجابري الذي كان وزيرا للخارجية و الداخلية معا وقتها الا ان اتجه الى هناك بسيارته لحل المسألة (سلميا) ولكن الاشوريين أسمعوه ما لا يليق واستقبلوه استقبالا رديئا, فعاد خائبا الى دمشق و بقي المحافظ مخطوفا حتى افرج عنه في وقت لاحق , كما انه حصلت في دولة العلويين محاولة اغتيال (احسان الجابري) شقيق سعدالله فهرب منها و بقيت دولة العلويين ايضا دون ممثل عن الحكومة اما في جبل الدروز  فقد انزل علم سوريا من دار الحكومة رفضا للكتلة الوطنية, و كل ذلك حصل تحت مرأى و مسمع الجابري , و لم يكن هناك للأسف اي غضب من قبل الجابري مثل غضبه على اخوانه المسلمين و ان كان خطؤهم اقل اهانة لسوريا مما ارتكب الاشقياء الاخرون (3).
سعد الله الجابري اول وزير خارجية و داخلية - احد مؤسسي الكتلة الوطنية

 في المفاوضات المستمرة ,حدث الكثير من (الاخذ و المطالبة) في باريس , فقد طالت المفاوضات حتى شهر شهر أيلول/سبتمبر (أي 6 شهور تقريبا) , في اثنائها علم النصيريون بأن دولتهم على وشك الزوال واندماجها مع الدولة السورية ,فقاموا بإرسال عدد من الخطابات الى رئيس الوزراء الفرنسي الماسوني  (ليون بلوم) ما بين 5-8 /6/1936 يطالبونه و يستجدونه في ابقاء الاحتلال الفرنسي و ابقاء دولة العلويين كان من ابرز الموقعين عليها (عزيز هواش ,محمد جنيد ,سلميان المرشد , سليمان اسد , محمد سليمان الاحمد (بدوي الجبل) ,صقر خير ,ابراهيم الكنج ) واخرين. (4) , ويقول المؤرخ الفرنسي (جاك فوليرس) بأن فرنسا تخلت عن انشاء الدولة العلوية لسببين رئيسيين اولهما ان الطبقات الشعبية لم تصل الى مستوى فهم الفرصة التاريخية لبناء دولة و السبب الثاني ان دولة العلويين كانت فقيرة جدا لتحمل اعباء مصاريف دولة ,فاضطرت فرنسا لضمها مع سوريا (5).
و بالحديث عن الدولة العلوية ,فقد شعر القوميون العرب بإنجاز كبير عندما تم تغيير اسمها من (دولة العلويين) الى (حكومة اللاذقية) في 15/4/1930 و بالرغم من ان ذلك اثار قلق النصيريين القاطنين فيها ,الا ان الدولة بقيت كما هي حتى بعد المعاهدة التي نصت على ضمها هي وجبل الدروز الى سوريا ,وكان المطالبون بالوحدة مع سوريا من الزعماء الثانويين ,ورد في احد التقارير السرية المرفوعة للخارجية الفرنسية بتاريخ 25/4/1936 "إن التنظيمات العشائرية السياسية تتألف من اربع احلاف عشائرية (الحدادون و الخياطون و الكلبية و المتاورة) والتي كان اعتمادنا عليها لتشكيل العمود الفقري للاستقلال الذاتي ,والتي يشكل زعماؤها الحاليون المجلس التمثيلي بدأت تفقد قدرتها ,كما اخذت الدعاية الوحدوية الدمشقية تستقطب الزعماء العشائريين الثانويين الطموحين كما ان انتشار التعليم الابتدائي صار يهدد الرابطة الباطنية القديمة التي لم يعد جهازها الوعظي الساذج يرضي الاجيال الجديدة" (6) مما يفسر اتجاه الجيل الجديد من النصيرية نحو الوصول للسلطة ليس عن طريق شعارات الطائفة بل عن طريق الشعارات القومية والوطنية , وكان هناك بعض النصيريين ممن طالبوا بالوحدة ,لكن تم ايضاح في مذكرة ارسلها المجلس التمثيلي بأن اولئك الذين يودون الوحدة لم يكونوا ليطالبوا بها لولا بعض الاعتبارات الناتجة عن المنافسة الانتخابية (7)  . وتشير البرقيات من وزارة الخارجية الفرنسية الى محاولة تهدئة و طمأنة النصيريين بشأن دولتهم و حصولها على استقلال ذاتي ضمن أطر تخفف من الثقل المالي الذي انهك الحكومة الفرنسية ,حيث يشير وزير الخارجية الفرنسية مخاطبا المفوض السامي في بيروت  الى الكتب المختلفة التي ترده من المجلس التمثيلي في اللاذقية والتي تطلب ارسال وفد يمثلها في باريس قائلا (انه من المستحيل طبعا السماح بهذا الطلب و ارجوا منكم ابلاغ (إبراهيم الكنج) ان كل المسائل التي تخص اللاذقية ستبحث في اوانها بين المفوض السامي و الممثلين المؤهلين للسكان ذوب العلاقة ,واني اذكركم بأن كل جهودنا يجب ان تتوجه نحو تجنب أي تعبير عن مطالب ليس لنا القدرة على الاستجابة لها)(8) , فعندما رأى النصيريون ان دولتهم توشك على الاندماج بسوريا أرسلوا عريضة رفعها رئيس المجلس التمثيلي في محاولة اخيرة  الى وزير الخارجية  يطلبون الاندماج مع لبنان بدلا من سوريا رافضين الوفد السوري ان يمثلهم في باريس (9)و لكن الدمج تم حسب المعاهدة , على انه كان دمجا صوريا ,حيث كانت دويلة الدروز و النصيريين خاضعتان للدستور السوري ,الا انهما يملكان نظاما اداريا واقتصاديا خاصا بهما , ولم يتم الدمج فعليا الا عام 1943 .وفيما يتعلق بسياسة الكتلة نحو الأقليات فقد كانت مبالغة جدا في تطمينها من اجل اعطاء صورة للغرب بأن الكتلة سوف تحفظ حقوق هذه الأقليات و تضمن سيادتها ضمن اقليتها و ضمن الوطن ايضا , من ذلك انه عند زيارة مطران دياربكر (ملاتيوس) لمكتب الكتلة الوطنية في 31 /3/1936 (أي اثناء المفاوضات) اصدرت الكتلة على الفور بيانا ابدت فيه استعدادها لاحترام و تأييد جميع حقوق الطوائف غير منقوصة كاملة , كما يذكر (بيير فابينو) وكيل الخارجية الفرنسية أن الوفد المفاوض التزم قبل فرنسا و حتى عصبة الامم بحقوق الأقليات , كما قدّم رئيس وزارة سوريا (جميل مردم) في مراسلاته مع (دي تسيان) ضمانات اضافية للاقليات و اخفاها عن الوزارة و البرلمان سنة كاملة (10)
هوية احد المواطنين المسيحيين ايام دولة العلويين 1920-1936

بعد توقيع المعاهدة بين وزارة الخارجية الفرنسية و الكتلة الوطنية, و التي قيدت كثيرا من سيادة سوريا , بل انها كانت استقلالا منقوص السيادة ان لم نقل خال من اهم معاني السيادة ,فقد أبقت المعاهدة على الحقوق الفرنسية في تحريك جيشها في أي مكان على ارض سوريا و ضمت (شكليا) محافظتي اللاذقية و جبل الدروز (والتي تخلى عنها الفرنسيون اصلا بسبب تكاليف ادارتهما الباهظة) (10) , واعترض كثيرون على المعاهدة التي سببت فيما بعد شقاقا عظيما بين الكتلة و غيرها من الاحزاب على رأسها حزب (عبدالرحمن الشهبندر) والتي قال عنها الشهبندر "إن هذه المعاهدة قالت بانتهاء الاحتلال و لكن في المقابل ان تعترف لفرنسا في أن تحتل بلادنا برا و جوا في السلم و في الحرب) و قال محب الدين الخطيب "بهذه النصوص احتفظت فرنسا لنفسها بحق احتلال المسلح لأي بقعة شاءت في أي ساعة شاءت لمدة ربع قرن على الاقل "(11) و تم استبدال اسم (المفوض السامي) بإسم (سفير فرنسا) و كان السفير الفرنسي هو نفسه المفوض السابق (هنري دو مارتيل) . ومن المفارقات ان هذه المعاهدة كما يقول نقيب الصحفيين السوريين عنها "ان السماء ساعدت في تمهيد الطريق الى عقدها (أي المعاهدة) في نجاح الجبهة الشعبية الفرنسية في الانتخابات وسيطرتها على الاوضاع" (12) فكان للاشتراكيين و الشيوعيين دور رئيسي ايضا في توقيع هذه المعاهدة التي تمت تحت حكم رئيس الوزراء الشيوعي وقتها (ليون بلوم) .
توقيع المعاهدة الفرنسية السورية - ليون بلوم وهاشم الاتاسي يوقعانها


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق